فصل: سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر خروج أبي ركوة على الحاكم بمصر:

في هذه السنة ظفر الحاكم بأبي ركوة، ونحن نذكر ها هنا خبره أجمع.
كان أبو ركوة اسمه الوليد، وإنما كني أبا ركوة لركوةٍ كان يحملها في أسفاره، سنة الصوفية، وهو من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان، ويقرب في النسب من المؤيد هشام بن الحاكم الأموي، صاحب الأندلس، وإن المنصور ابن أبي عامر لما استولى على المؤيد هشام بن الحاكم الأموي، صاحب الأندلس، وإن المنصور ابن أبي عامر لما استولى على المؤيد وأخفاه عن الناس، تتبع أهله ومن يصلح منهم للملك، فطلبه، فقتل البعض وهرب البعض.
وكان أبو ركوة ممن هرب، وعمره حينئذ قد زاد على العشرين سنة، وقصد مصر، وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن، وعاد إلى مصر ودعا بها إلى القائم، فأجابه بنو قرة وغيرهم.
وسبب استجابتهم أن الحاكم بأمر الله كان قد أسرف في مصر في قتل القواد، وحبسهم، وأخذ أموالهم، وسائر القبائل معه في ضنكٍ وضيقٍ، ويودون خروج الملك عن يده؛ وكان الحاكم في الوقت الذي دعا أبو ركوة بني قرة قد آذاهم، وحبس منهم جماعة من أعيانهم، وقتل بعضهم، فلما دعاهم أبو ركوة انقادوا له.
وكان بين بني قرة وبين زناته حروب ودماء، فاتفقوا على الصلح، ومنع أنفسهم من الحاكم، فقصد بني قرة، وفتح يعلم الصبيان الخط، وتظاهر بالدين والنسك، وآمهم في صلواتهم، فشرع في دعوتهم إلى ما يريد، فأجابوه وبايعوه، واتفقوا عليه، وعرفهم حينئذ نفسه، وذكر لهم أن عندهم في الكتب أنه يملك مصر وغيرها، ووعدهم ومناهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. فاجتمعت بنو قرة وزناتة على بيعته، وخاطبوه بالإمامة، وكانوا بنواحي برقة. فلما سمع الوالي ببرقة خبره كتب إلى الحاكم ينهيه إليه، ويستأذنه في قصدهم وإصلاحهم، فأمره بالكف عنهم وأطراحهم.
ثم إن أبا ركوة جمعهم وسار إلى برقة، واستقر بينهم أن يكون الثلث من الغنائم له، والثلثان لبني قرة وزناتة، فلما قاربها خرج إليه واليها، فالتقوا، فانهزم عسكر الحاكم، وملك أبو ركوة برقة، وقوي هو ومن معه بما أخذوا من الأموال والسلاح وغيره، ونادى بالكف عن الرعية والنهب، وأظهر العدل وأمر بالمعروف.
فلما وصل المنهزمون إلى الحاكم عظم عليه الأمر، وأهمته نفسه وملكه، وعاود الإحسان إلى الناس، والكف عن أذاهم، وندب عسكراً نحو خمسة آلاف فارس وسيرهم، وقدم عليهم قائداً يعرف بينال الطويل، وسيره، فبلغ ذات الحمام، وبينها وبين برقة مفازة فيها منزلان، لا يلقى السالك الماء إلا في آبار عميقة بصعوبة وشدة. فسير أبو ركوة قائداً في ألف فارس، وأمرهم بالمسير إلى ينال ومن معه ومطاردتهم قبل الوصول إلى المنزلين المذكورين، وأمرهم، إذا عادوا، أن يغوروا الآبار، ففعلوا ذلك وعادوا، فحينئذ سار أبو ركوة في عساكره ولقيهم وقد خرجوا من المفازة على ضعفٍ وعطش، فقاتلهم، فاشتد القتال، فحمل ينال على عسكر أبي ركوة، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وأبو ركوة واقف لم يحمل هو ولا عسكره، فاستأمن إليه جماعة كثيرة من كتامة لما نالهم من الأذى والقتل من الحاكم، وأخذوا الأمان لمن بقي من أصحابهم، ولحقهم الباقون، فحمل حينئذ بهم على عساكر الحاكم، فانهزمت وأسر ينال وقتل، وأسر أكثر عسكره، وقتل منهم خلق كثير، وعاد إلى برقة وقد امتلأت أيديهم من الغنائم.
وانتشر ذكره، وعظمت هيبته، وأقام ببرقة، وترددت سراياه إلى الصعيد وأرض مصر، وقام الحاكم من ذلك وقعد، وسقط في يده، وندم على ما فرط، وفرح جند مصر وأعيانها، وعلم الحاكم ذلك، فاشتد قلقه، وأظهر الاعتذار عن الذي فعله.
وكتب الناس إلى أبي ركوة يستدعونه، وممن كتب إليه الحسين بن جوهر المعروف بقائد القواد، فسار حينئذ عن برقة إلى الصعيد، وعلم الحاكم، فاشتد خوفه، وبلغ الأمر به كل مبلغ، وجمع عساكره واستشارهم، وكتب إلى الشام يستدعي العساكر، فجاءته، وفرق الأموال، والدواب، والسلاح، وسيرهم وهم اثنا عشر ألف رجل بين فارس وراجل، سوى العرب، واستعمل عليهم الفضل بن عبدالله. فلما قاربوا أبا ركوة لقيهم في عساكره، ورام مناجزة المصريين، والفضل يحاجزه، ويدافع، ويراسل أصحاب أبي ركوة يستميلهم ويبذل لهم الرغائب، فأجابه قائد كبير من بني قرة يعرف بالماضي، وكان يطالعه بأخبار القوم وما هم عازمون، فيدبر الفضل أمره على حسب ما يعلمه منه، وضاقت الميرة على العساكر، فاضطر الفضل إلى اللقاء، فالتقوا واقتتلوا بكوم شريك، فقتل بين الفريقين قتلى كثيرة، ورأى الفضل من جمع أبي ركوة ما هاله، وخاف المناجزة فعاد إلى عسكره.
وراسل بنو قرة العرب الذين في عسكر الحاكم يستدعونهم إليهم ويذكرونهم أعمال الحاكم بهم، فأجابوهم، واستقر الأمر أن يكون الشام للعرب ويصير لأبي ركوة معه مصر، وتواعدوا ليلة يسير فيها أبو ركوة إلى الفضل، فإذا وصل إليه انهزمت العرب، ولا يبقى دون مصر مانع. فكتب الماضي إلى الفضل بذلك، فلما كان ليلة الميعاد جمع الفضل رؤساء العرب ليفطروا عنده، وأظهر أنه صائم، وطاولهم الحديث، وتركهم في خيمة واعتزلهم، ووصى أصحابه بالحذر، ورام العرب العود إلى خيامهم، فعللهم وطاولهم، ثم أحضر الطعام وأحضرهم، فأكلوا وتحدثوا.
وسير الفضل سرية إلى طريق أبي ركوة، فلقوا العسكر الوارد من عنده، فاقتتلوا، ووصل الخبر إلى العسكر وارتج، وأراد العرب الركوب، فمنعهم، وأرسل إلى أصحابهم من العرب فأمرهم بالركوب والقتال، ولم يكن عندهم علم بما فعل رؤساؤهم، فركبوا واشتد القتال، ورأى بنو قرة الأمر على خلاف ما قرروه.
ثم ركب الفضل ومعه رؤساء العرب، وقد فاتهم ما عزموا عليه، فباشروا الحرب وغاصوا فيها، وورد أبو ركوة مدداً لأصحابه، فلما رآه الفضل رد أصحابه وعاد إلى المدافعة.
وجهز الحاكم عسكراً آخر، أربعة آلاف فارس، وعبروا إلى الجيزة، فسمع أبو ركوة بهم، فسار مجداً في عسكره ليوافقهم عند مصر، وضبط الطرق لئلا يسمع الفضل، ولم يكن الماضي يكاتبه، فساروا، وأرسل إليه من الطريق يعرفه الخبر، وقطع أبو ركوة مسيره خمس ليالٍ في ليلتين، وكبسوا عسكر الحاكم بالجيزة، وقتلوا نحو ألف فارس، وخاف أهل مصر، ولم يبرز الحاكم من قصره، وأمر الحاكم من عنده من العساكر بالعبور إلى الجيزة، ورجع أبو ركوة فنزل عند الهرمين، ثم انصرف من يومه، وكتب الحاكم إلى الفضل كتاباً ظاهراً يقول فيه: إن أبا ركوة انهزم من عساكرنا، ليقرأه على القواد وكتب إليه سراً يعلمه الحال. فأظهر الفضل البشارة بانهزام أبي ركوة تسكيناً للناس.
ثم سار أبو ركوة إلى موضع يعرف بالسبخة، كثير الأشجار، وتبعه الفضل، وكمن أبو ركوة بين الأشجار، وطارد عسكر الفضل، ورجع عسكره القهقري ليستجروا عسكر الفضل ويخرج الكمين عليهم، فلما رأى الكمناء رجوع عسكر أبي ركوة ظنوها الهزيمة لا شك فيها، فولوا يتبعونهم، وركبهم أصحاب الفضل، وعلوهم بالسيوف فقتل منهم ألوف كثيرة، وانهزم أبو ركوة ومعه بنو قرة وساروا إلى حللهم، فلما بلغوها ثبطهم الماضي عنه، فقالوا له: قد قاتلنا معك، ولم يبق فينا قتال، فخذ لنفسك وانج؛ فسار إلى بلد النوبة، فلما بلغ إلى حصن يعرف بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من الحاكم إلى ملكهم، فقال له صاحب الحصن: الملك عليل، ولا بد من استخراج أمره في مسيرك إليه.
وبلغ الفضل الخبر، فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته، فوكل به من يحفظه، وأرسل إلى الملك بالحال، وكان ملك النوبة قد توفي وملك ولده، فأمر بأن يسلم إلى نائب الحاكم، فتسلمه رسول الفضل وسار به، فلقيه الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربه، وحمله إلى مصر فأشهر بها، وطيف به.
وكتب أبو ركوة إلى الحاكم رقعة يقول فيها: يا مولانا الذنوب عظيمة، وأعظم منها عفوك، والدماء حرام ما لم يحللها سخطك، وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي، وسوء عملي أوبقني، وأقول:
فررت فلم يغن الفرار، ومن يكن ** مع الله لم يعجزه في الأرض هارب

ووالله ما كان الفرار لحاجةٍ، ** سوى فزع الموت الذي أنا شارب

وقد قادني جرمي إليك برمّتي، ** كما خرّ ميتٌ في رحا الموت سارب

وأجمع كلّ الناس أنّك قاتلي، ** فيما ربّ ظنّ ربّه فيك كاذب

وما هو إلاّ الانتقام، وينتهي، ** وأخذك منه واجباً لك واجب

ولما طيف به ألبس طرطوراً، وجعل خلفه قرد يصفعه، كان معلماً بذلك، ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل ويصلب، فتوفي قبل وصوله، فقطع رأسه وصلب، وبالغ الحاكم في إكرام الفضل إلى حد أنه عاده في مرضةٍ مرضها دفعتين، فاستعظم الناس ذلك، ثم إنه عمل في قتل الفضل لما عوفي فقتله.

.ذكر القبض على مجد الدولة وعوده إلى ملكه:

في هذه السنة قبضت والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب الري وبلد الجبل، عليه.
وكان سبب ذلك أن الحكم كان إليها في جميع، أعمال ابنها، فلما وزر له الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء، ووضعهم عليها، والشكوى عليها، وخوف ابنها منها، فصار كالمحجور عليه. فخرجت من الري إلى القلعة فوضع عليها من يحفظها، فعملت الحيلة حتى هربت إلى بدر بن حسنويه، واستعانت به في ردها إلى الري.
وجاءها ولدها شمس الدولة، وعساكر همذان، وسار معها بدر إلى الري فحصروها، وجرى بين الفرقين قتال كثير مدةً، ثم استظهر بدر، ودخل البلد، وأسر مجد الدولة، فقيدته والدته وسجنته بالقلعة، وأجلست أخاه شمس الدولة في الملك وصار الأمر إليها.
وعاد بدر إلى بلده، وبقي شمس الدولة في الملك نحو سنة، فرأت والدته منه تنكراً وتغيراً، وأن أخاه مجد الدولة ألين عريكةً، وأسلم جانباً، فأعادته إلى الملك، وسار شمس الدولة إلى همذان، وكره بدر هذه الحالة إلا أنه اشتغل بولده هلال عن الحركة فيها، وصارت هي تدبر الأمر، وتسمع رسائل الملوك، وتعطي الأجوبة.
وأرسل شمس الدولة إلى بدر يستمده، فسير إليه جنداً، فأخذهم وسار بهم إلى قم، فحصروها، فمنعها أهلها. ثم إن العساكر دخلوا طرفاً منها واشتغلوا بالنهب، فأكب عليهم العامة وقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل، وانهزم الباقون إلى معسكرهم، ثم قبض هلال بن بدر على أبيه، فتفرق ذلك الجمع كله.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة اشتد الغلاء بالعراق، فضج العامة، وشغب الجند وكانت فتنة.
وفيها توفي عبد الصمد الزاهد، ودفن عند قبر أحمد، وكان غاية في الزهد والورع.
وفيها هب على الحجاج ريح سوداء بالثعلبية أظلمت لها الأرض، ولم ير الناس بعضهم بعضاً، وأصابهم عطش شديد، ومنعهم ابن الجراح الطائي من المسير ليأخذ منهم مالاً، فضاق الوقت عليهم، فعادوا ولم يحجوا.
وفيها مات علي بن أحمد أبو الحسن الفقيه المالكي، المعروف بابن القصار. ثم دخلت:

.سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة:

.ذكر غزوة بهيم نفر:

لما فرغ يمين الدولة من الغزوة المتقدمة وعاد إلى غزنة، واستراح هو وعسكره، استعد لغزوة أخرى، فسار في ربيع الآخر من هذه السنة، فانتهى إلى شاطئ نهر هندمند، فلاقاه هناك ابرهمن بال بن اندبال في جيوش الهند، فاقتتلوا ملياً، وكادت الهند تظفر بالمسلمين، ثم إن الله تعالى نصر عليهم، فظفر بهم المسلمون، فانهزموا على أعقابهم، وأخذهم المسلمون بالسيف.
وتبع يمين الدولة أثر ابرهمن بال، حتى بلغ قلعة بهيم نغر، وهي على جبل عالٍ كان الهند قد جعلوها خزانةً لصنمهم الأعظم، فينقلون إليهال أنواع الذخائر، قرناً بعد قرن، وأعلاق الجواهر، وهم يعتقدون ذلك ديناً وعبادة، فاجتمع فيها على طول الأزمان ما لم يسمع بمثله، فنازلهم يمين الدولة وحصرهم وقاتلهم.
فلما رأى الهنود كثرة جمعه، وحرصهم على القتال، وزحفهم إليهم مرة بعد أخرى، خافوا وجبنوا، وطلبوا الأمان، وفتحوا باب الحصن، وملك المسلمون القلعة، وصعد يمين الدولة إليها في خواص أصحابه وثقاته، فأخذ منها من الجواهر ما لا يحد، ومن الدراهم تسعين ألف ألف درهم شاهية، ومن الأواني الذهبيات والفضيات سبعمائة ألف وأربعمائة من، وكان فيها بيت مملوء من فضة طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه خمسة عشر ذراعاً، إلى غير ذلك من الأمتعة.
وعاد إلى غزنة بهذه الغنائم، ففرش تلك الجواهر في صحن داره، وكان قد اجتمع عنده رسل الملوك، فأدخلهم إليه، فرأوا ما لم يسمعوا بمثله.

.ذكر حال أبي جعفر بن كاكويه:

هو أبو جعفر بن دشمنزيار، وإنما قيل كاكويه لأنه كان ابن خال والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، وكاكويه هو الخال بالفارسية، وكانت والدة مجد الدولة قد استعملته على أصبهان، فلما فارقت ولدها فسد حاله، فقصد الملك بهاء الدولة وأقام عنده مدة، ثم عادت والدة مجد الدولة إلى ابنها بالري، فهرب أبو جعفر وسار إليها، فأعادته إلى أصبهان، واستقر فيها قدمه، وعظم شأنه، وسيأتي من أخباره ما يعلم به صحة ذلك، إن شاء الله تعالى.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، وقع ثلج كثير ببغداد وواسط والكوفة، والبطائح إلى عبادان، وكانت ببغداد نحو ذراع، وبقي في الطرق نحو عشرين يوماً.
وفيها وقعت الفتنة ببغداد في رجب، وكان أولها أن بعض الهاشميين من باب البصرة أتى ابن المعلم فقيه الشيعة في مسجده بالكرخ، فآذاه، ونال منه، فثار به أصحاب ابن المعلم، واستنفر بعضهم بعضاً، وقصدوا أبا حامد الأسفراييني وابن الأكفاني فسبوهما وطلبوا الفقهاء ليوقعوا بهم، فهربوا، وانتقل أبو حامد الأسفراييني إلى دار القطن، وعظمت الفتنة، ثم إن السلطان أخذ جماعةً وسجنهم، فسكنوا، وعاد أبو حامد إلى مسجده، وأخرج ابن المعلم من بغداد، فشفع فيه علي بن مزيد فأعيد.
وفيها وقع الغلاء بمصر واشتد، وعظم الأمر، وعدمت الأقوات، ثم تعقبه وباء كثير أفنى كثيراً من أهلها.
وفيها زلزلت الدينور زلزلةً شديدةً خربت المساكن، وهلك خلق كثير من أهلها؛ وكان الذين دفنوا ستة عشر ألفاً سوى من بقي تحت الهدم ولم يشاهد.
وفيها أمر الحاكم بأمر الله، صاحب مصر، بهدم بيعة قمامة، وهي بالبيت المقدس، وتسميها العامة القيامة، وفيها الموضع الذي دفن فيه المسيح، عليه السلام، فيما يزعمه النصارى، وإليها يحجون من أقطار الأرض، وأمر بهدم البيع في جميع مملكته، فهدمت، وأمر اليهود والنصارى إما أن يسلموا؛ أو يسيروا إلى بلاد الروم ويلبسوا الغيار، فأسلم كثير منهم، ثم أمر بعمارة البيع، ومن اختار العود إلى دينه عاد، فارتد كثير من النصارى.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، وزير مجد الدولة، ببروجرد، وكان سبب مجيئه إليها أن أم مجد الدولة بن بويه اتهمته أنه سم أخاه فمات، فلما توفي أخوه طلبت منه مائتي دينار لتنفقها في مأتمه، فلم يعطها، فأخرجته، فقصد بروجرد، وهي من أعمال بدر بن حسنويه، فبذل بعد ذلك مائتي ألف دينار ليعود إلى عمله، فلم يقبل منه، فأقام بها إلى أن توفي، وأوصى أن يدفن بمشهد الحسين، عليه السلام، فقيل للشريف أبي أحمد، والد الشريف الرضي، أن يبيعه بخمس مائة دينار موضع قبره، فقال: من يريد جوار جدي لا يباع؛ وأمر أن يعمل له قبر وسير معه من أصحابه خمسين رجلاً، فدفنه بالمشهد.
وتوفي بعده بيسير ابنه أبو القاسم سعد؛ وأبو عبدالله الجرجاني الحنفي بعد أن فلج؛ وأبو الفرج عبد الواحد بن نصر المعروف بالببغاء الشاعر، وديوانه مشهور؛ والقاضي أبو عبدالله الضبي بالبصرة؛ والبديع أبو الفضل أحمد ابن الحسين الهمذاني، صاحب المقامات المشهورة، وله شعر حسن، وقرأ الأدب على أبي الحسين بن فارس مصنف المجمل.
وتوفي أبو بكر أحمد بن علي بن لالٍ الفقيه الشافعي الهمذاني بنواحي عكا بالشام، كان انتقل إلى هناك. ثم دخلت:

.سنة تسع وتسعين وثلاثمائة:

.ذكر ابتداء حال صالح بن مرداس:

لما قتل عيسى بن خلاط أبا علي بن ثمال بالرحبة وملكها، أقام فيها مدةً، ثم قصده بدران بن المقلد العقيلي، فأخذ الرحبة منه وبقيت لبدران. فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها ثم عاد إلى دمشق.
وكان بالرحبة رجل من أهلها يعرف بابن محكان، فملك البلد، واحتاج إلى من يجعله ظهره، ويستعين به على من يطمع فيه، فكاتب صالح بن مرداس الكلابي، فقدم عليه وأقام عنده مدةً، ثم إن صالحاً تغير عن ذلك، فسار إلى ابن محكان وقاتله على البلد، وقطع الأشجار، ثم تصالحا، وتزوج ابنة ابن محكان، ودخل صالح البلد إلا أنه كان أكثر مقامه بالحلة.
ثم إن ابن محكان راسل أهل عانة فأطاعوه، ونقل أهله وماله إليهم، وأخذ رهائنهم، ثم خرجوا عن طاعته، وأخذوا ماله واستعادوا رهائنهم وردوا أولاده، فاجتمع ابن محكان وصالح على قصد عانة، فسارا إليها، فوضع صالح على ابن محكان من يقتله، فقتل غيلةً، وسار صالح إلى الرحبة فملكها، وأخذ أموال ابن محكان وأحسن إلى الرعية، واستمر على ذلك، إلا أن الدعوة للمصريين.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قتل أبو علي بن ثمال الخفاجي، وكان الحاكم بأمر الله، صاحب مصر، قد ولاه الرحبة، فسار إليها، فخرج إليه عيسى بن خلاط العقيلي فقتله وملك الرحبة، ثم ملكها بعده غيره، فصار أمرها إلى صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب.
وفيها صرف أبو عمر بن عبد الواحد الهاشمي عن قضاء البصرة، وكان قد علا إسناده في رواية السنن لأبي داود السجستاني، ومن طريقه سمعناه، وولي القضاء بعده أبو الحسن بن أبي الشوارب، فقال العصفري الشاعر:
عندي حديثٌ طريفٌ ** بمثله يتغنّى

من فاضيين يعزّى ** هذا وهذا يهنّا

فذا يقول اكرهونا ** وذا يقول استرحنا

ويكذبان ونهذي ** فمن يصدّق منّا؟

وفيها توفي أبو داود بن سيامرد بن باجعفر، ودفن عند قبر النذور بنهر المعلى، وقبته مشهورة؛ وأبو محمد النامي الفقيه الشافعي، وهو القائل:
يا ذا الذي قاسمني في البلى، ** فاختار أن يسكنه أوّلا

ما وطّنت نفسي، ولكنّها ** تسري إليكم منزلاً، منزلا ثم دخلت:

.سنة أربع مائة:

.ذكر وقعة نارين بالهند:

في هذه السنة تجهز يمين الدولة إلى الهند عازماً على غزوها، فسار إليها واخترقها واستباحها ونكس أصنامها. فلما رأى ملك الهند أنه لا قوة له به راسله في الصلح والهدنة على مال يؤديه، وخمسين فيلاً، وأن يكون له في خدمته ألفا فارس لا يزالون. فقبض منه ما بذله وعاد عنه إلى عزنة.

.ذكر الخلف بين بدر بن حسنويه وابنه هلال:

في هذه السنة كانت حرب بين بدر بن حسنويه الكردي وبين ابنه هلال.
وكان سبب الوحشة بينهما أن أم هلال كانت من الشاذنجان، فاعتزلها أبوه عند ولاته، فنشأ هلال مبعداً منه لا يميل إليه،وكانت نعمة بدر لابنه الآخر أبي عيسى.
فلما كان في عض الأيام خرج هلال مع أبيه متصيداً، فرأيا سبعاً، وكان بدر إذا رأى سبعاً قتله بيده، فتقدم هلال إلى الأسد بغير إذن أبيه فقتله، فاغتاظ أبوه وقال: كأنك قد فتحت فتحاً، وأي فرقٍ بين السبع والكلب؟ ورأى إبعاده عنه لشدته، فأقطعه الصامغان، وسهل ذلك على هلال لينفرد بنفسه عن أبيه، فأول ما فعله أنه أساء مجاورة ابن الماضي، صاحب شهرزور، وكان موافقا لأبيه بدر، فنهى بدر ابنه هلالاً عن معارضته، فلم يسمع قوله، وأرسل إلى ابن الماضي يتهدده، فأعاد بدر مراسلة ابنه في معناه، وتهدده إن تعرض بشي هو له، فكان جواب نهيه أنه جمع عسكره وحصر شهرزور ففتحها، وقتل ابن الماضي وأهله، وأخذ أموالهم. فورد على بدر من ذلك ما أزعجه وأقلقه، وأظهر السخط على هلال.
وشرع هلال يفسد جند أبيه ويستميلهم ويبذل لهم، فكثر أصحاب هلال لإحسانه إليهم وبذله المال لهم، وأعرض الناس عن بدر لإمساكه المال، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فالتقيا على باب الدينور، فلما تراءى الجمعان انحازت الأكراد إلى هلال، فأخذ بدر أسيراً وحمل إلى ابنه، فأشير على هلال بقتله، وقالوا: لا يجوز أن تستبقيه بعدما أوحشته؛ فقال: ما بلغ من عقوقي له أن أقتله؛ وحضر عند أبيه وقال له: أنت الأمير، وأنا مدبر جيشك. فخادعه أبوه بأن قال له: لا يسمعن هذا منك أحدٌ فيكون هلاكنا جميعاً، وهذه القلعة لك، والعلامة في تسليمها كذا وكذا، واحفظ المال الذي بها، فإنك الأمير ما دام الناس يظنون بقاءه، وأريد أن تفرد لي قلعة أتفرغ فيها للعبادة. ففعل ذلك، وأعطاه جملة من المال.
فلما استقر بدر بالقلعة عمرها وحصنها، وراسل أبا الفتح بن عناز، وأبا عيسى شاذي بن محمد، وهو بأساداباذ، يقول لكل واحدٍ منهما ليقصد أعمال هلال ويشعثها. فسار أبو الفتح إلى قرميسين فملكها، وسار أبو عيسى إلى سابور خواست، فنهب حلل هلال، ومضى إلى نهاوند، وبها أبو بكر بن رافع، فاتبعه هلال إليها، ووضع السيف في الديلم فقتل منهم أربع مائة نفس، منهم تسعون أميراً، وأسلم ابن رافع أبا عيسى إلى هلال، فعفا عنه، ولم يؤاخذه على فعله، وأخذه معه.
وأرسل بدر إلى الملك بهاء الدولة يستنجده، فجهز فخر الملك أبا غالب في جيش وسيره إلى بدر، فسار حتى وصل إلى سابور خواست، فقال هلال لأبي عيسى شاذي: قد جاءت عساكر بهاء الدولة، فما الرأي؟ قال: الرأي أن تتوقف عن لقائهم، وتبذل لبهاء الدولة الطاعة، وترضيه بالمال، فإن لم يجيبوك فضيق عليهم، وانصرف بين أيديهم، فإنهم لا يستطيعون المطاولة، ولا تظن هذا العسكر كمن لقيته بباب نهاوند، فإن أولئك ذللهم أبوك على ممر السنين.
فقال: غششتني ولم تنصحني، وأردت بالمطاولة أن يقوى أبي وأضعف أنا؛ وقتله، وسار ليكبس العسكر ليلاً. فلما وصل إليهم وقع الصوت، فركب فخر الملك في العساكر، وجعل عند أثقالهم من يحميها، وتقدم إلى قتال هلال، فلما رأى هلال صعوبة الأمر ندم، وعلم أن أبا عيسى بن شاذي نصحه، فندم على قتله، ثم أرسل إلى فخر الملك يقول له: إنني ما جئت لقتال وحرب، إنما جئت لأكون قريباً منك، وأنزل على حكمك، فترد العسكر عن الحرب، فإنني أدخل في الطاعة.
فمال فخر الملك إلى هذا القول، وأرسل الرسول إلى بدر ليخبره بما جاء به. فلما رأى بدر الرسول سبه وطرده، وأرسل إلى فخر الملك يقول له: إن هذا مكر من هلال، لما رأى ضعفه، والرأي أن لا تنفس خناقه. فلما سمع فخر الملك الجواب قويت نفسه، وكان يتهم بدراً بالميل إلى ابنه، وتقدم إلى الجيش بالحرب، فقاتلوا، فلم يكن بأسرع من أن أتي بهلال أسيراً، فقبل الأرض، وطلب أن لا يسلمه إلى أبيه، فأجابه إلى ذلك، وطلب علامته بتسليم القلعة، فأعطاهم العلامة، فامتنعت أمه ومن بالقلعة من التسليم، وطلبوا الأمان، فأمنهم فخر الملك، وصعد القلعة ومعه أصحابه، ثم نزل منها وسلمها إلى بدر، وأخذ ما فيها من الأموال وغيرها، وكانت عظيمة، قيل: كان بها أربعون ألف بدرة دراهم، وأربع مائة بدرة ذهباً، سوى الجواهر النفيسة، والثياب، والسلاح وغير ذلك. وأكثر الشعراء ذكر هذا، فممن قال مهيار:
فظنّوك تعبا بحمل العراق، ** كأن لم يروك حملت الجبالا

ولو لم تكن في العلوّ السماء ** لما كان غنمك منها هلالا

سريت إليه، فكنت السرار ** له، ولبدر أبيه كمالا

وهي كثيرة.